الأظرف الثلاثة !!!
أخيراً أقلعت الطائرة إلى بوسطن .. تخترق الغيوم نحو هذه المدينة التي لم أزرها من قبل ولا ادري ان كان احسستم من قبل بارتباط شعوري بمدينة لم تروها قط ، لكن حلم بوسطن كان يدغدغني منذ مراهقتي الاولي حتي اني احفظ شوارعها وطرقها وبامكاني ان اتحدث مع احد ساكنيها عن المدينه ومشاكلها كاني محافظها !
لا ادري كيف ترعرت في خلايا عقلي الباطن مثل هذه الامنيه حتي تشبعت بها روحي وقاتلت من اجل السفر اليها ببسالة عنتره في انقاذ عبلة .. فدخلت في صراعات مع والدي من اجل اقناعهم بالسفر .. وحصلت علي اعلي الدرجات الدراسيه ليتم قبولي فيها .. وتنازلت عن كل الاغراءات الماديه في سبيل الوصول الي بوسطن .. وها انا قادمه يا بوسطن .. في الوقت الذي كنت افكر
فيه بان اخذ الميكرفون من كابتن الطائره لاعلن لكل المسافرين :
رغم كل العقد الاجتماعيه التي تحارب الانثي في الخليج ..
ربطي بكرسي الجامعه القريبه من منزلنا ..
مريم ذاهبه الي بوسطن !!
انقطعت تخيلاتي وسخافاتي وانا اتحسس تلك المظاريف الثلاثة المخبأة تحت ملابسي فقد اعطتني اياها جدتي في اللحظات الاخيره قبل دخولي قاعة المسافرين في المطار ولم اتمكن من
ادخالها في الشنطة فهربتها في ملابسي ... اخرجت المظاريف الثلاثة وانا ابتسم في قرارة نفسي فقد شعرت لحظتها وانا اخفي هذه الظروف تحت ملابسي باني مهربه ممنوعات ! والغريب
اني لا ادري ما فيها كل ما اعرفه ان جدتي اسبلت ملح عينيها واعطتني هذه الظروف وقالت لي
افتحيها وقت الضيق والحاجه
-ولكن متي وقت الحاجه اليها ؟ حينما لا تجدين احدا يحمل همك او يمسح كآبتك ؟
واي كآبة يا جدتي في بوسطن ؟! انها حلمي ... مسحت تللك الدمعه الغاليه وهي تحاول عبثا
الابتسام .
انا مثلكم مستغربه تماما .. فجدتي انسانه واضحه بل صافيه جدا وهي من ذلك النوع الملائكي السمح لا ادخل عليها الا مصليه ساجده او ذاكرة لله تاليه للقرآن لا تتحدث بغير الخير
كل الامور في نظرها ماديات تافهه .. تحب المسيئين اليها بطريقة تجنني ودائما تجد الاعذار للمخطئين والمقصرين لم ار في حياتي وجها يبعث الراحه والطمانينه في قلوب الناس كوجهها
اخالها واحده من السلف الصالح حينما اراها ولو قدر لوجهها ان يكون حروفا لكاد يكون من اي القران
اما اليوم فهي اول مره اراها باكيه فما يكون في هذه المظاريف فلوس وصفة طعام فهي تجيد التعامل مع القدور دواء ! ارقام تليفونات !! وبالرغم من شغفي الشديد الا ان اني سالزم وصيتها وسافتحها في اقصي حالات الكآبه .
ساختصر لكم بوسطن بعد وصولي لها بثلاثة اشهر بكلمه واحده : خيبة امل !
ففي خلال اسابيع قليلة بعد عودة اخي الذي اوصلني واطمأن علي اموري ماتت تدريجيا متعة الشي الجديد وبدات اعيش واقعية اكثر لا اهل .. لا عائلة .. لا اصدقاء .. حياة صعبه لا خادمه ولا سائق وغلاء مادي فاحش ومما يعقد الموضوع ان الناس هنا مستعجلون مشغولون لا يلتفتون الي مريم التي جاءت من اعماق صحراء شبه الجزيرة العربيه التي تفيض بالبترول ، كل اصدقائي في الجامعه تنتهي علاقتي بهم بانتهاء الدراسه ، صديقاتي في السكن مجنونات ! لكل منهن عالمها الخاص ، الاولي مدمنة كمبيوتر لا تغادر الشاشه والثانيه تصاحب المخده ولاتغادر فراشها الا للضروره
القصوي والوحدة القاتله !كنت اعتقد اني سانال حرية اكبرواكثر هنا ولكن الحقيقة ان حياتي لم تتغير كثيرا لا ملابسي ولا مواعيد خروجي ، فكل ما تغير هو الوجوه الشقراء والعيون الملونه بدلا من السواد العربي الجميل الذي يزحف علي العيون والشعر في بلادي ولكن التغير حدث في داخلي فقد زحفت تللك الكابه في شراييني تدريجي وبدات انياب الوحده تتوشني وظننت انها ضريبة الغربة !
بدات اعوض تلك الغربه النفسيه بكثرة الخروج والتسوق وزيارة الصديقات !
ولكن مهلا فانا من عائلة متوسطة واعتمد علي معاش البعثة الدراسيه وبسبب المعارك الضاريه
التي خضتها مع والدي فقد وعدتهم اني لن اطلب منهم مالا قط ! وبسبب الخروج المكثف واكياس
التسوق المكدسه وجدت نفسي في اسابيع قليلة مفلسه مكسوره ولواني في بيتنا لكان الامر
هينا فالاكل والشراب والاقامه مجانيه اما هنا فعلي ان ادفع الاجره وثمن كل لقمه همبرجر ابلعها
ولكني لم انتبه لذلك ووقعت في ورطه فخلال اسبوعين سيحل موعد الايجار الذي اتقاسمه مع ثلاث
من صديقاتي فما العمل ؟
ظللت ساهرة طوال الليل افكر في حل لما انا فيه هل اتحدث مع امي لا لا مستحيل ماا ستقول؟
لم تستطيعي ان تصمدي من الشهور الاولي هل اطلب من صديقاتي ان يدفعت الاجره عني في هذا الشهر؟ لا كرامتي لا تسمح لي بذلك !
آه تذكرت اظرف جدتي لا بد انها تحوي فلوسا وانا في حالة صعبة سافتح احداها فتحت الانارة وتوجهت الي المكان الذي اخبئ فيه هذه الاظرف قلبتها بين اناملي مسحت علي احداها كما تمسح الحامل علي بطنها تتحسس الطفل في رحمها لاحظت ان الاظرف مرقمه فاخذت الظرف الاول وفتحته يا لخيبة الامل لم ار فيه فلوسا فقد كان بداخله ورقه مطويه فضضتها علي عجل لاجد ورقة كبيرة مكتوب فيها سطر يتيم بخط عجوز مرتعش:
" كيف اخشي الفقر .. وانا عبد الغني "
اخذت اتفكر في جمال العبارة المكتوبه بخط جدتي الذي تعلمته في الكتاب وانا انظر من نافذتي الي ناطحات السحاب والمباني النائمه علي ارصفة بوسطن فبدت لي هذه الحروف اكثر شموخا من ذلك
الاسمنت الخانق وسري في داخلي هاتف يقول :
يامريم هل ترين كل هذه الابنية الشاهقة البنوك المملوءة بالاوراق الخضراء شاشات اسهم
الشركات المتصاعده رجال الاعمال والكادحين العالم المترامي وهذا العالم كله نقطه من هذا الكون
الشاسع وكل ما في هذا الكون رزق من الكريم الوهاب فهل تشكين في كرم الله قفي بين يديه واطلبيه فانتي امته وهو يحب عباده وكريم معهم وبلا شعور توضئت وصليت
وفي الحقيقة منذ وصلت هنا ولا احد يشجعني علي صلاة فتذبذبت صلاتي وتقطعت الي ان اغبر
سجادتي
فيه ذلة المحتاج وفيه امل بكرم الكريم وقد كان دعاء صادقا خالصا من قلبي المصحف من اوله وقرات حتي وصلت الي قوله تعالي
" من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط واليه ترجعون "
وقررت ان اتوكل علي الله وان ابحث عن عمل من صباح الغد، فعلته ان توجهت الي المركز الاسلامي
وتبرعت بمبلغ صغير وانا اجدد نيتي في كل لحظه باني ادفع هذا المبلغ لوجه الله ساعيه لثوابه لا لسبب اخر ، بدات اذكر نفسي باتكالي علي الغني واكرر قول جدتي كيف اخشي الفقر وانا عبد الغني ومضي وجه النهار دون ان اجد وظيفه عدت الي بيتي في المساء منهاره ما في جيبي غير
دولارات لا تكفي ليومين !
فتحت بريدي الالكتروني لاجد احدي صديقاتي قد ارسلت لي رساله تعتذر عن عدم اهدائي هديه
تخرجي لظروف سفرها وبسبب بعد المسافه بيننا فلن تتمكن من ارسال هديتها لي لذا فهي تريد
رقم حسابي لكي تحول مبلغا ماليا !!
سبحانك يا غني ترزق الطائر الاعمي في عشه والنسر الصغير فوق جبله والسمكه في قاع المحيط
فقمت وصليت من فوري وبوجه عريض ارسلت لها رقم حسابي وحولت لي مبلغا كاف بعد يومين
انقذني من تللك الورطه
حمدا لك يا رب وشكرا لك جدتي
قللت خروجي ومصاريفي بشكل واضح وتعلمت معني التوكل عليه والتعلق به في كل صغيره وكبيره
ولكن تلك الوحده والغربه ظلت تلاحقني ساءت حالتي النفسيه بدات لا اتحدث كثيرا لا احب الخروج
سلوتي في محاضراتي ودراستي فقط
ومع الايام بدات الخلافات مع صديقاتي في الجامعه والسكن حيث بدا يظهر التباين في الشخصيات
والاخلاق بشكل ملحوظ وبدات تنقطع علاقاتي مع صديقاتي في الخليج حتي احسست اني اقبع
خلف القضبان بالرغم من حريتي وجدتني مسجونه وحيده في بلاد الغربه !
وعدت ادراجي اخرج المظروف الثاني ولم اقو علي فتحه لمدة ثلاثة ايام فوضعته علي الطاوله اقلبه
كمنتحر يمسك بمسدس بين يديه يراجع قرار انتحاره اياما وفي اليوم الثالث خنقتني الكابه وطرحتني الوحده ارضا فوجدتني افض الورقة بيد مرتعشه وانا متاكده انها ستكون سببا في شفائي
ما هذا لم اجدورقه هذه المره بل وجدت قطعة صغيره علي شكل الرقم 5! فحصت الرقم من جوانبه
لم اجد فيه شيئا يذكر ما الذي يمكن ان يعنيه رقم 5 في حياتنا وكيف تعالج ال5 حالة الكابه التي
اعانيها بعد فترة من التفكيرقفزت الي عقلي تللك العبارة الشهيره التي تذكرها جدتي باستمرار وهي تفرد اصابعها الخمس وجهنا :
" كيف الوحشه .. ونحن نلتقي به خمس مرات في اليوم !"
يا لغبائي كيف لم ادرك بان الرقم 5 هو خمس صلوات في اليوم وبدات باتباع وصفتها اصلي الصلوات
الخمس في اليوم علي وقتها مهما كانت الظروف وفي اقل من ثلاث ايام انتفضت نفسي طاردة تلك
الوحده والكابه واحسست باني خارجه لتوي من السجن
فجزاك الله عني خير الجزاء يا جدة !
مريم اسم جميل اليس كذلك يبدا بالميم وينتهي بالميم ولن تجد كلمه تحوي ميمين الا ككلمة ماما
لان حرف الميم فيه صوت رخيم حنون يبعث بالطمأنينه لذا تجد كلمة ام في كل لغات الدنيا تحوي حرف الطمانينه وهذا الحرف رائع الرسم فانا دائما اراه كشفاه المي لفتاة صغيره الفم او اراه كعين
نجلاء واسعة العمق وجميلة المعاني وقد اسمتني جدتي بهذا الاسم وحينما سالتها عن السر
قالت يا ابنتي هو اسم اختاره الله العذراء وانا اخترته لك لاني اتوسم فيك نقاوة وبياضا !
لكن يا جدتي انا فتاة شقية ؟ وهل الشقاوة الا انعكاس لبراءتنا وصفائنا التي تدفعنا لان نعبر عن
انفسنا دون خوف !!
ولعل تللك المراه هي التي علمتني كيف اكون شقيه محبوبه لشقاوتي دون ان اؤذي احدا من خلقه
ولا اخفيكم اني بعد التزامي بالصلوات الخمس في مواعيدها زال عني الكثير من حمل تللك الغربه
القاسيه وتشافيت من سياطها وعدت الي شقاوتي البريئه التي اكسبتني مجتمعا من الصديقات
الجديدات لكن لكل شي اذا ما تم نقصان !
ففي اول يوم من رمضان اتصلت صديقتي من بلدي في الخليج باكية تعزيني فاجبتها من وراء الهاتف
عظم الله اجري لماذا من المتوفي ؟
تلعثمت صديقتي اذ كانت تظن اني اعرف لكنها فوجئت بجهلي وبدات اصرخ علي الهاتف وانتحب
اطالبها بان تكشف عن الحقيقه فاتتني بلك الخبر الذي كذبته امالي موت جدتي !
كيف تموت ! كيف سيكون حال العائله بعد ذهاب ام الخير والنور !! ما الذي سيعوض بركة تلاوتها
وصلاتها كل يوم ومادت بي الارض !
وعلمت خلال ساعات انهم ارسلوا اخي الاكبرعلي اول طائره ليخبرني بالخبر ويحملني لمراسم العزاء الا انني عرفت الخبر قبل قدومه ..
اعتزلت غرفتي والعزله في حقيقتها تمكنك من الاتصال بذاتك من قراءة تاريخك الشخصي اما
الاختلاط بالناس فيعكر ذلك الصفاء اردت ساعتها ان احزن دون ان يعكر صفو حزني اردت ان ابكيها
واتذكرها دون ان يفسد الاخرون علي متعة الدموع وظللت هكذا منغمسة مستمتعة بحزني وبكائي
لساعات طويله ...ثم وجدت جسدي يقوم من مكانه ويخطو كالماشي في النوم نحو الدرج ويستل
رسالتها الاخيره لاشمها واضمها في صدري ثم تقرضت علي فراشي جففت دوعي بلعت غصة حزن كانت في ريقي وجلست اتامل رسالتها الاخيره قبلت الرساله كاني اقبل اديم جدتي
احيانا تكون الاشياء الصغيره امتداد لجوارح الناس وكانت تللك الرساله امتدادا لبشرتها النقيه الصافيه
وبعد ساعات قلبت فيها الرساله عاجزه عن فتحها جمعت ماتبقي في نفسي من عزم وشجاعة
وفتحت الرساله :
( كنت اجمل ما في حياتي يا مريومتي الصغيره .. ولطالما سالتني عن السر في اسمك ... احببت ان اتركه لك سرا لتجهدي في البحث عنه وتقديره اكثر... السر في اسمك يا مريم هو كهيعص..
النداء الخفي )
انتهت رسالتها بينما تركزت عيناي علي السطر الاخير كهيعص .. والنداء الخفي وحار فكري لمدة قصيره ثم تنبهت الي السر " كهيعص" هي الحروف الاولي من سورة مريم تللك السوره التي احمل
اسمها هرعت افتح المصحف الشريف لاقرا السورة الكريمه
" كهيعص ذكر رحمة ربك عبده زكريا اذ نادى ربه نداء خفيا "
يااااااه .. كم يبدو لفظ نداء خفيا رقراقا وصافيا ومؤثرا في النفس ! من منا ينادي ربه ؟ ومن منا
يناجيه في الخفاء ؟ ومن منا يستغل سجدته في الليل ليحادث مالك الملك يرجوه ويدعوه ويأنس
به ؟
اكملت قراءة سورة مريم ... ورفعت يدي اناديه واناجيه ان يغفر لها ويحمها ... وقضيت ليلي اناجيه
واحادثه طوال الليل ، وفي الصباح وصل اخي ليفاجأ برؤيتي متماسكة هادئه وادعه بل مبتسمه !
ومن يومها اصبحت مثلها دائمة الابتسام وكثيرة النداء الخفي مفتخرة باسمي مريم ولم
يرني احد قاطبه او متضايقه ...
فانا لا اخشي الفقر لاني امة الغني ..
وانا لا تزورني الوحشة لاني انس به سبحانه وتعالي خمس مرات في اليوم ...
وانا سعيده لاني استغل لحظات يومي بذكره وليلي بمناجاته ...
كيف لا تكون هذه حالي ! وانا اعيش لذة الطاعة ..
إنها لذة الطاعة ... جربيها
منقول من كتيب قصة الأظرف الثلاثة من مجموعة لذة الطاعة جربها التوعوية من ركاز في رد سي مول في السعودية - جدة